كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



أي عندما تجتمع الأيدي تكون هي اليد القادرة. وعندما نقرأ كلمة {يد الله} فهل نحصرها في نعمته أو ملكه؟ {تَبَارَكَ الذي بِيَدِهِ الملك وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الملك: 1].
والله سبحانه وتعالى أعلم بذاته فنقف عند الوصف، نعم له يد، وله يدان، وإياك أن تتصور أن كل ما يتعلق بالله مثل ما يتعلق بك؛ لأن الأصل أن لك وجودًا الآن، ولله وجود، لكن وجودك غير وجود الله، وكذلك يده ليست كيدك. حتى لا نشبه ونقول: إن له يدًا مثل أيدينا، فلنقل إن المراد باليد هو القدرة أو النعمة، والهدف الراقي هو تنزيه الحق. وهناك من يقول: إن لله يدًا ولكن ليست كأيدينا لأننا نأخذ كل ما يأتي وصفًا لله على أنه {ليس كمثله شيء} والتأويل ممكن. مثلما بيّن الحق: انه قد صنع موسى على عينيه.
وتأخذ أي مسألة تتعلق بوصف الله إما كما جاءت، بأنه له يدًا ولكن ليست كالأيدي، وله وجود لا كالوجود البشرى، وله عين ليست كالأعين، ولكن كل وصف لله نأخذه في إطار {ليس كمثله شيء}. وإما أن نأخذ الوصف بالتأويل، ويراد بها النعمة ويراد بها القدرة. ويقول الحق: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} والمراد هما هو «النعمة». ولم يكتف سبحانه بأن يرد بأن له يدًا واحدة تعطي. لا، بل يرد بما هو أقوى مما يمكن، فهو يعطي بيديه الاثنتين، وهو القائل: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان: 20].
أنه يُعطي الظاهر ويُعطي الباطن. وإياك أن تقول تلك اليد اليمنى وتلك اليد اليسرى؛ لأن كلتا يدي الله يمين: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} أي أنه سبحانه لا يمكن. أن يكون بخيلًا، حتى وإن منع الحق فذلك منح وعطاء وإنفاق؛ لأن الذي يطغى بنعمة، قد يذهب به الطغيان إلى بلاء وسوء مصير؛ لذلك يقبض سبحانه عنه النعمة ليعطيه الأمن من أن ينحرف بالنعمة. ولذلك نجد القول الحق في سورة الفجر: {فَأَمَّا الإنسان إِذَا مَا ابتلاه رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ ربي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابتلاه فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ ربي أَهَانَنِ} [الفجر: 15-16].
ورد الحق بعد ذلك بقوله: {كلا}.
فلا الإعطاء هنا للإكرام، ولا المنع للإهانة. فكيف يكون الإعطاء دليل الإكرام وقد يعطيك الله ولا تؤدي حق النعمة؟ وكيف يكون المنع دليل الإهانة وهو قد منعك من وسيلة انحراف؟ إذن فهو قد أعطاك بالمنع- في بعض الأحيان- أنه قد أعطاك الأبقى وهو الهداية.
إذن فمنعه أيضًا عطاء.
{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} والناس تنظر دائمًا إلى عطاء الله بعطاء الإيجاب، ولا تنظر عطاء السلب أي المنع، وهو أن يصرف عنك الحق مصرف سوء، وسبق أن ضربت المثل بالرجل الذي تحرى الحلال في مصدر ماله ويتقي الله في عمله ويأخذ دخله ويدير حركة حياته في إطار هذا الدخل، وقد يعود هذا الرجل إلى منزله فيجد حرارة الابن مرتفعة قليلًا، ولأن ماله حلال وذرات جسمه تعرف أن ماله حلال؛ لذلك يستقبل الأمر بهدوء ويعرض الابن على طبيب في مستوصف خيري بقروش قليلة، فيصف الطبيب دواء بقروش قليلة ويتم شفاء الابن.
هذا الرجل يختلف حاله عن حال رجل آخر أتى بماله من السحت، وساعة يرى حرارة ابنه قد ارتفعت نجد باله يدور بين ألف خاطر سوء، ويدور الرجل بابنه على الأطباء ولا يصدق طبيبًا واحدًا.
الرجل الأول رزقه الله الاطمئنان بمنع هواجس الحدَّة من قلبه وخواطره، أما الرجل الثاني فهو ينفق أضعاف ما أكله من سحت. إذن {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} أي أن هناك عطاء السلب. والعطاء الذي يحبه الإنسان هو عطاء السلب. والعطاء الذي يحبه الإنسان هو عطاء المال وهو عطاء المال وهو عطاء يذهب إلى الفانية. أما المنع فهو يمنع الإنسان من ارتكاب آثام. وبعد ذلك يأخذ الإنسان نعيمه في الآخرة. ونحن نجد كثيرًا من الناس تدعو، ولكنهم لا يعلمون أن الله قد أعطى بالمنع.
يقول الحق تبارك وتعالى: {وَيَدْعُ الإنسان بالشر دُعَاءَهُ بالخير وَكَانَ الإنسان عَجُولًا} [الإسراء: 11].
لذلك يعطي الحق أحيانًا أشياء يكون العبد قد ألح عليها، وبعد ذلك يتبين الإنسان أنها شر، كأن الحق ساعة منع الإنسان لفترة كان ذلك صيانة له.
{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} إذن فكله إنفاق. وسبحانه ينفق كيف يشاء، فلا يبخل أبدًا حتى وإن منع، فالمنع في موضعه الصحيح هو عين الإنفاق، وهكذا يكون عطاء الله عطاء النعمة ظاهرة كانت أو باطنة. فإن أردت ب «اليد» القدرة فيدا الله مبسوطتان بالثواب لقوم وبالعقاب لقوم آخرين. وهو سبحانه وتعالى يعطي لحضرة النبي صلى الله عليه وسلم المناعة الإيمانية ضد كل متمرد عليه، أو ضد كل متأبٍ ومستكبر من الكافرين أو من أهل الكتاب.
فكأنه سبحانه وتعالى يوضح: وطَّنْ نفسك يا محمد ولتوطن أمتك نفسها على أن هؤلاء الكفرة لن يكتفوا بالقدر اليسير والقليل من الكراهية لك، بل كلما جاءت لك نعمة بزيادة الهدى من الله سيحسدونك، وسيبغضونك، وسيزداد تمردهم وحقدهم عليك، فوطن نفسك على ذلك. وفي هذا ما يعطي مناعة إيمانية، يسد كل منافذ وسوسة النفس ويجعل النفس على استعداد لاستقبال ما يحدث حتى ولو كان من المكاره.
ولنقرب هذا الأمر من الذهن.
لا تشبيهًا ولكن لمجرد تقريب الأمر من الذهن- والله المثل الأعلى- لننظر إلى ما حدث في أوروبا في أثناء الحرب العالمية الثانية، كانت انجلترا تخوض الحرب ضد النازية، وكانت الأهوال تتساقط من الطائرات على المدن الإنجليزية. وجاء تشرشل ليقود الحرب فقال للإنجليز. إن الهول والصعاب هي التي تتنظركم فوطنوا أنفسكم على مواجهة الشدائد.
وإذا كان هذا قد حدث في حرب بين شعبين، فما بالنا بالحق سبحانه وتعالى وهو يعلم ضرورة التمحيص لأمته التي تحمل راية المنهج الكامل للهداية. كان لابد إذن من أن يوطن نفس رسوله ونفوس المؤمنين معه على مواجهة الحسد والبغض والحقد والمكر والتبييت.
ويقول الحق: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ العداوة والبغضاء إلى يَوْمِ القيامة}. ولا يأتي قول الحق: «بينهم» إلا إذا كان هناك طائفتان، والمقصود إما الطوائف اليهودية فيما بينها، وإما طوائف النصرانية فيما بينها، أو بين اليهودية والنصرانية، خصوصًا أن هذه الآيات مستهلة بقوله الحق: {يَا أَهْلَ الكتاب}. فإذا كانت لليهود فالعداوة والبغضاء قائمة بين طوائفهم بعضها مع بعضها الآخر. وإذا كانت للنصارى فالعداوة والبغضاء حاصلان فيما بين طوائفهم، وإن كانت بين اليهود كقسم وبين النصارى كقسم فهي مسألة ممكنة. وهذه العداوة والبغضاء لا تنتهي أبدًا بل هي قائمة بينهم إلى يوم القيامة.
ويقول الحق: {كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله} وهذا خبر عما وقع في حضن الإسلام، ومثال ذلك خروج «بني قينقاع» على العهد بعد أن جمعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في سوق بني قينقاع وقال لهم: «يا معشر اليهود أسلموا قبل أن يصيبكم الله بما أصاب قريشًا».
فرفضوا وقالوا: يا محمد لا يغرنك من نفسك أن قتلت نفرا من قريش كانوا أغمارًا لا يعرفون القتال، إنك والله لو قاتلتنا لعرفت أنّا نحن الناس وأنك لم تلق مثلنا. فنزل فيهم قول الحق: {قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ المهاد} [آل عمران: 12].
فكان «بنو قينقاع» أول اليهود الذين نقضوا ما بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحاربوا فيما بين موقعتي بدر وأحد.
وكان سبب ذلك أن امرأة من العرب قدمت بجلب لها- بضاعة- لتبيعها في سوق «بني قينقاع»، فجلست إلى صائغ يهودي بالسوق، وحاول اليهود إجبارها على كشف وجهها، فأبت، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها، وهي لا تشعر به، فلما قامت انكشفت سوءتها، فضحكوا بها فصاحت المرأة. فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله، وشدت اليهود على المسلم فقتلوه، وحدثت بذلك الفتنة، لكن الله أطفأ الفتنة وأجلى «بني قينقاع»، ثم «بني النضير» وكان لهم- قبل ذلك- التجمع القوي في المدينة بالثراء والعلم.
وقاتل المسلمون «بني قريظة» وأجلوا أهل خيبر، وتملك واستولى المسلمون على وادي القرى. حدث هذا في حضن الإسلام فماذا حدث في غير حضن الإسلام؟
لقد رأيناهم أيام المجوس وقد أهلكهم بختنصر، وكذلك تيتوس الروماني، ورأيناهم مقطعين في الأرض في كل زمان ومكان، وقد يقول قائل: إذا كان الحق قد قال: {كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله} فلماذا لا تنطفىء الحرب الحالية بيننا وبينهم؟ ونقول: إن الذي يطفئ نيران الحرب لابد أن يكون من جنود الله. وعندما نصبح جنودًا لله فلسوف تنطفئ هذه الحرب.
والمثال القريب منا هو انتصارنا في العاشر من رمضان. لقد كان انتصارنا بالعمل تحت راية «الله أكبر» وقد جزى الله بالخير الضباط والجنود الذين كانوا يعلمون أن العتاد في جانب العدو كان أكبر من عتادنا، لكن النتيجة كانت في صالحنا لأننا دخلناها تحت ظل «الله أكبر».
أما الذين ادعوا أنه انتصار حضاري فنقول: عن أي حضارة تتحدثون؟ والإسلام هو نبع الحضارة المتوازنة، وليس الادعاء بالحضارة هو الخروج عن منهج الله. إننا إن ثبتنا على مبدأ «الله أكبر» لا كشعار ولكن كتطبيق لأطفأ الله نيران أي حرب.
ويترك سبحانه في كونه السنن التي تعطي التجارب الواقعية لمن يتشكك في الإيمان. ومثال ذلك ما حدث من مخالفة لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعض المقاتلين في غزوة أحد فكادت الهزيمة تلحق بهم. وفي غزوة حنين قالوا: لن نُغلب اليوم من قلة ولذلك يقول سبحانه: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ الله فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} [التوبة: 25].
وقد ترك الله هذه السنن الكونية ليلفت أي غافل عن الدين أن الخصم ينال منه؛ فالغفلة تؤدي إلى الانحراف، والانحراف لا يمكن أن يؤدي إلى النصر. هكذا يحذر الحق معسكر الإيمان. أما معسكر الكفر فالحق يريد له الذلة، فيعطيه في بعض اللحظات نصرًا على المؤمنين في أوقات غفلتهم، وما أن يُفيق المؤمنون من الغفلة حتى تأتي ضربتهم لمعسكر الكفر. وتأتي الضربة وقت أن يكون معسكر الكفر في علو وغلو. ولنا في المثل الريفي الإيضاح.
يقول المثل: لا يقع مؤمن من على حصيرة، والمقصود أن التواضع يحمي الإنسان من وهم العلو والكبر؛ لأن الذي يقع هو الذي يتخيل أنه علا في الأرض ولذلك يعميه الله عن الحرص، ويأتي قوله: {وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا} [الإسراء: 7].
أي أن يتم العصف بكل شيء. وأهل السياسة عندما يريدون أن ينزلوا بخصومهم العقاب يرفعون خصومهم ويمدون لهم في حبال الصبر والإمهال حتى يعلو الخصم كثيرًا ثم ينكشف ويظهر سوء سلوكه فيقع أمام الناس.
ولذلك نجد القرآن صريحًا مطلق الصراحة في هذا المجال: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أوتوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ} [الأنعام: 44].
فسبحانه يمد ويملي لهم ليأخذوا وليبنوا وليترفوا، وليفرحوا بما أخذوا، ومن بعد ذلك يفتح الله عليهم أبواب كل شيء. وأمثلة ذلك في الحياة كثيرة.
لقد رأينا الدول القوية تساعد خصومنا، واتفق المعكسر الشرقي والمعسكر الغربي لسنوات على مساعدة الخصم، وقلنا لهم: أنتم الآن في مقام: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ} وأنتم أيها الخصوم قد تنتقلون إلى مقام: {حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أوتوا}. وسوف تنتقلون من بعد ذلك إلى مقام: {أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ}.
وقد حدث أن سقط الاتحاد السوفيتي بأكمله، وأخذهم الله بغتة بأيدي أناس منهم، وكثيرًا ما تحدث الكوارث لمن يضطهد أهل الإيمان. إذن: فلا داعي لأن يغتر أحد بما وصل إليه.
ويقول الحق: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ العداوة والبغضاء إلى يَوْمِ القيامة كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله وَيَسْعَوْنَ فِي الأرض فَسَادًا والله لاَ يُحِبُّ المفسدين} [المائدة: 64].